عام على يوم الباستيل المصري: أمن الدولة يا أمن الدولة... فين الأمن وفين الدولة
عام مر على ليلة اقتحام مقرات أمن الدولة، وهو اليوم الذي اعتبره الكثير بمثابة "يوم الباستيل" المصري، تشبيها بيوم اقتحام الجموع الشعبية الفرنسية لسجن وقلعة الباستيل عام 1789، وهو المكان الذي اعتادت السلطات الفرنسية حينذاك اعتقال المعارضين السياسيين فيه فصار رمزا لقهر السلطة في العصر الملكي. لم يذكر تاريخ الثورة الفرنسية يوم اقتحام الباستيل على أنه يوم "تعدي فيه عدد من البلطجية على إحدى المنشآت العامة بهدف إسقاط الدولة"— رغم أن هذا هو تحديدا ما حدث إذا أردنا الدقة، فقد سقط ما يقرب من مئة قتيل في اقتحام الباستيل، وكان الهدف الرئيسي من الاقتحام هو الاستيلاء على الأسلحة والذخيرة الموجودة بالداخل بهدف حماية الثورة الفرنسية من انقلاب موشك من طبقة النبلاء، ولكن المؤرخين وضعوا الأمور في سياقها الصحيح، فالاقتحام لم يأت من فراغ، كما أنه أدى لترسيخ جذور الثورة الفرنسية والديمقراطية النيابية الوليدة. وقد تبعت اقتحام الباستيل سلسلة من التغييرات السياسية والاجتماعية الجذرية، بداية بإلغاء النظام الإقطاعي وإصدار "إعلان حقوق الإنسان والمواطن". أما عن "يوم الباستيل المصري"، فلم ينجح في تحقيق أي شيء يذكر إلا الإحساس بنشوة الانتصار المعنوي قصيرة الأجل، حتى أصبح الكثير على يقين أن ما حدث كان تمثيلية مهدت لها السلطات لامتصاص الغضب الشعبي المرتبط باستمرار عمل جهاز أمن دولة بدون أي تغييرا يذكر.
بعد أن انتشرت أنباء الاقتحام في مثل هذه الليلة منذ عام، ناشدت السلطات المصرية المتظاهرين الذين أنقذوا المستندات الموجودة داخل المقرات المقتحمة من الحرق أو الإتلاف تسليم الأوراق للأجهزة المعنية حفاظا على مصر من خطر انتشار أسرار قد تمس أمنها القومي. وأتذكر مما قرأت ورأيت من الأوراق التي تم تسريبها على الانترنت أن أغلبها لم يقترب حتى من بعيد من أمن مصر القومي، وأن الكثير من وقت ضباط أمن الدولة كان يستخدم فيما يبدو في متابعة العلاقات الشخصية للسياسيين ورجال الأعمال. ولكن على كل حال فقد مر اليوم على سلام: لم يلجأ المتظاهرون المصريون الذين اقتحموا المقرات للعنف، ووثقوا في نهاية الأمر بمؤسسات الدولة القضائية فقاموا بتسليم أغلب المستندات التي نجحوا في إنقاذها من الحرق أو الإتلاف إلى قوات الجيش التي كانت متواجدة أو إلى مقرات النيابة، بعد أن تلقوا الوعود بأن يتم فتح التحقيق في تاريخ انتهاكات أمن الدولة، وفي وقائع الحرق والإتلاف المتعمد للكثير من الملفات من قبل العاملين بقطاع أمن الدولة قبل هروبهم، بالإضافة إلى الوعود بإعادة الهيكلة الجهاز بأكمله.
وما حدث منذ هذا التاريخ هو أن جهاز أمن الدولة تم حله، رسميا، وعلى أرض الواقع فقد تم تغيير اسمه إلى قطاع الأمن الوطني ولم يحدث تفكيك حقيقي للجهاز الذي أشرف على عمليات القمع السياسي طوال سنوات حكم مبارك. أما عن إعادة الهيكلة فلم نسمع إلا عن بعض التنقلات وبعض الإحالات للتقاعد، بدون محاسبة حقيقية. و من ناحية الرقابة فقد أصدرت وزارة الداخلية مدونة للسلوك لضباط القطاع في مايو2011، ووعدت بإصدار قانون منظم لعمل الجهاز، وهو ما لم يحدث حتى الآن. فالشرطة بجميع إداراتها لم تخضع لعملية إعادة هيكلة وفحص حقيقي للسجلات لكي نعرف كيف كانت هذه الأجهزة تدار في عصر الدولة البوليسية. ورغم إصدار عدة مدونات لقواعد السلوك إلا أن المؤشرات تقول أن أساليب العمل لم تتبدل. أما عن التحقيقات في حرق الملفات وفيما تسلمته النيابة العامة من أوراق أمن الدولة فكأن كل هذا لم يكن من الأساس، وقد أثبتت الأيام أن النيابة العامة لا تمتلك القدرة ولا النية على محاسبة المسئولين في أجهزة الدولة خاصة الأجهزة الأمنية، اللهم إلا القليل منهم الذين تم التضحية بهم ككباش فداء. يتذكر الكثير من النشطاء يوم اقتحام مقرات أمن الدولة فيشعرون بالخديعة أولا، والندم ثانيا لأنهم سلموا الملفات للقوات المسلحة والنيابة بدلا من نشرها على الإنترنت أو الاحتفاظ بها حتى يأتي يوم نستطيع فيه محاسبة المخطئين بأجهزة الدولة.
في فرنسا، تحولت ذكرى اقتحام الباستيل في الرابع عشر من يوليو إلي العيد الوطني الفرنسي، باعتباره اليوم الذي أصبح علامة فارقة في تاريخ الثورة الفرنسية وفي طريق تأسيس الدولة الديمقراطية الحديثة التي تقوم على المشاركة والمساءلة والمحاسبة. أما في مصر ما بعد الثورة، فالشيء الوحيد الذي نتذكره يوم 5 مارس هو أن سياسات عدم الشفافية والسماح للأجهزة الأمنية بالعمل خارج إطار القانون والمحاسبة والمساءلة مازالت مستمرة. وإلا فلماذا يستمر الإعلام في الإشارة إلى أمن الدولة والمخابرات العامة باسم "أجهزة سيادية"؟ نحن لا نقدر حتى على تسميتهم باسمهم الحقيقي، فلا زال إذا أمامنا الكثير من الوقت والجهد قبل أن يأتي اليوم الذي يعرف فيه المواطن دافع الضرائب فيم تنفق أمواله تلك الأجهزة السيادية وكيف تنفقها.